استحقاقات معلَّقة وتحذيرات.. ماذا وراء تعثر إصلاح اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في نيبال؟

استحقاقات معلَّقة وتحذيرات.. ماذا وراء تعثر إصلاح اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في نيبال؟
احتجاجات في نيبال تطالب بالعدالة لانتهاكات حقوق الإنسان

في بلدٍ عاش سنواتٍ طويلة من الصراع السياسي والاضطرابات، تجد نيبال نفسها اليوم في مواجهة اختبار صعب يتلخص في السؤال: هل تستطيع حماية استقلالية مؤسساتها الوطنية لحقوق الإنسان والوفاء بالتزاماتها الدولية، أم سيظلّ هذا الملف أسير التلكؤ الحكومي والبيروقراطية؟ وبين التحذيرات الأممية والتقارير الحقوقية المتتالية يبدو أنّ الأزمة أعمق من مجرد تأخر في صياغة قانون.

خلال المراجعة الدورية الشاملة في الأمم المتحدة عام 2021، تعهدت نيبال بتحسين أداء اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان وضمان توافقها الكامل مع مبادئ باريس التي تُعتمد معيارًا دوليًا لاستقلالية وكفاءة هذه المؤسسات، ورغم الجهود الأولية لصياغة مشروع قانون جديد يهدف لتعزيز استقلال اللجنة وتعددية تشكيلها، توقفت العملية بعد إحالة مشروعي قانون إلى وزارة العدل، ولا يزال مصيرهما غامضًا حتى اليوم.

صرّح توب بهادور بيستا، وكيل وزارة القانون وحقوق الإنسان في مكتب رئيس الوزراء، بأن المشروعين بانتظار الموافقة، مؤكدًا أنّ مشروع القانون أولوية، لكن غياب جدول زمني واضح يزيد المخاوف، في المقابل، يرى شيام بابو كافلي، وكيل اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، أنّ الحكومة لا تعتبر الأمر أولوية حقيقية، خاصة بعد نجاح اللجنة في الحفاظ على تصنيفها العالمي "أ"، ما خفّف الضغط الداخلي للمطالبة بسرعة الإصلاح.

مبادئ باريس.. المعيار الغائب

تعود مبادئ باريس، التي أقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1993، لتكون حجر الزاوية في النقاش، هذه المبادئ تشدد على ستة معايير، أهمها الاستقلالية عن الحكومة، والاستقلالية الدستورية، والكفاءة الكافية، والتعددية، والموارد الكافية، والصلاحيات اللازمة لإجراء التحقيقات، ورغم موافقة نيبال على هذه المبادئ منذ سنوات تشير التقارير الحقوقية إلى فجوة واسعة بين الالتزامات والنصوص التشريعية.

اللجنة الفرعية للاعتماد التابعة للتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان أوصت بضرورة اعتماد قانون يضمن استقلال اللجنة في التعيينات والتمويل، ويحول دون الحاجة لموافقة وزارة المالية لقبول منحٍ من جهات مانحة، مع مراعاة التعددية في عضويتها –بما في ذلك وجود امرأتين على الأقل– وعرض تقاريرها مباشرةً على البرلمان بدلًا من رئيس الجمهورية.

تحذيرات أممية وتقارير موازية

في يناير من العام المقبل، ستخضع نيبال للدورة الرابعة من الاستعراض الدوري الشامل في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهي مناسبة حاسمة قد تُحرج الحكومة أمام المجتمع الدولي، في تقريرٍ موازٍ قدّمته اللجنة الوطنية الأسبوع الماضي، عبّرت بوضوح عن بطء التقدم في إقرار القانون، معتبرةً أنّ ذلك يُهدد استقلالية اللجنة وقدرتها على حماية حقوق الإنسان فعليًا.

الأمم المتحدة ليست وحدها في التعبير عن القلق؛ فقد أوصت عشر دول –بينها أستراليا والهند وسريلانكا– نيبال باتخاذ خطوات عاجلة لتطبيق مبادئ باريس وضمان استقلال اللجنة ماديًا وإداريًا، وتنفيذ توصياتها التي غالبًا ما تُوضع على الرف. ومع ذلك، تكرر المشهد ذاته: وعودٌ تُقطع، مشاريع قوانين تُصاغ، لكن دون اعتماد فعلي.

من الحرب الأهلية إلى البناء الديمقراطي

لفهم هذه الأزمة لا بد من العودة إلى سياق نيبال السياسي.. خرجت البلاد عام 2006 من حرب أهلية دامية استمرت عشر سنوات وأودت بحياة أكثر من 17 ألف شخص، بعد توقيع اتفاق سلام تاريخي بين الحكومة والمتمردين الماويين، هذا الاتفاق فتح الباب أمام التحول الديمقراطي وصياغة دستور جديد عام 2015، تضمن تأسيس مؤسسات دستورية لحماية حقوق الإنسان.

ورغم بعض التقدم الذي تحقق خلال العقد الماضي –مثل إنشاء اللجنة الوطنية وتوسيع صلاحياتها– فإنّ الأزمة السياسية المستمرة والتناحر بين الأحزاب الحاكمة جعل الإصلاحات الكبرى، خاصة تلك المتعلقة باستقلالية المؤسسات، تراوح مكانها.

أرقام ودلالات

بحسب تقارير منظمات حقوقية محلية ودولية، لا يقتصر التحدي في نيبال على استقلالية اللجنة الوطنية، فقد وثّق تقرير هيومن رايتس ووتش للعام الماضي استمرار حالات التعذيب في مراكز الشرطة، واستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، وتهميش الأقليات العرقية والدينية، إضافةً إلى بطء العدالة الانتقالية في معالجة إرث الحرب الأهلية.

تشير تقديرات إلى أنّ نحو 60% من توصيات اللجنة الوطنية بشأن حقوق الإنسان لا تنفّذها السلطات التنفيذية، ما يُفقد هذه المؤسسة تأثيرها الفعلي، ويدفع ضحايا الانتهاكات إلى فقدان الثقة في النظام برمّته، وفي ظل غياب قانون يضمن استقلال التمويل، تعتمد اللجنة جزئيًا على الميزانية الحكومية، ما يجعلها عرضة للضغوط السياسية.

أزمة ثقة وامتحان قادم

يبدو أنّ الحكومة النيبالية تراهن على الوقت في تأجيل هذه الإصلاحات، لكن الاستعراض الدوري الشامل في يناير سيُشكل اختبارًا حقيقيًا، فغياب قانون يعكس مبادئ باريس بوضوح سيُثير انتقادات واسعة، خاصة مع استمرار تقارير الانتهاكات دون معالجة.

يقول ياجيا أديكاري، السكرتير المشترك في اللجنة الوطنية: "من المؤكد أن تُثار هذه القضية في الاستعراض المقبل.. كيف ستدافع الحكومة عن نفسها أمام أسئلة المجتمع الدولي دون قانون جديد؟". ويضيف أن فرص إقرار مشاريع القوانين قبل موعد المراجعة ضئيلة جدًا.

ويبقى السؤال الأهم: ماذا يعني هذا التعطيل لملايين النيباليين؟ الجواب تجده في قصص الضحايا الذين لا تصل قضاياهم إلى المحاكم، وفي تقارير المنظمات التي ترصد حالات الإخفاء القسري دون تحقيقات شفافة، والتمييز ضد الأقليات دون مساءلة، وبدون لجنة وطنية قوية ومستقلة، تصبح هذه الانتهاكات مجرد أرقام لا تتحرك أمامها السلطات.

وبين تعهدات الحكومة، وتحذيرات الأمم المتحدة، وتوصيات الدول، يبقى جوهر الأزمة في نيبال مرتبطًا بإرادة سياسية غائبة أو مترددة، ومشروع القانون الذي يُفترض أن يُعيد الثقة بالمؤسسات معطّل حتى إشعار آخر، فيما العدالة الانتقالية متعثرة، والانتهاكات مستمرة.

وسيظلّ الاستعراض الدوري المقبل بمثابة جرس إنذار جديد؛ فإما أن تستجيب نيبال بالتشريعات الحقيقية، أو تواجه فقدانًا تدريجيًا لمصداقيتها أمام العالم، والأهم “أمام شعبها”.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية